ألم يصادف أن شاهدت مرة فيلماَ وثائقياَ يسأل فيه المخرج أو المذيع ضيفه عن موقف مؤثر في حياته، ثم يُلحّ عليه في السؤال بقصد أن يبكي (!) ويتأثر، ثم يجعله يبكي أمامك على الشاشة؛ لتعيش جو المشهد، وكأنك تجلس بجانب الضيف، مع العلم أن الفارق واضح، إذ الضيف يبكي من مرارة ما يتذكره، بينما أنت مستمتع بما تراه، هل سألت نفسك: هل هذا عمل أخلاقي؟ أم هل شاهدت برنامج وثائقي (تحقيقات) وهو يظهر وجه طفل مشرد، ويسأله أسئلة (تحقيقية) ويحاول أن يذكره بوالديه، ليدخل الطفل في حالة عاطفية لا تريد أن ترى ابنك مكانه؟ فهل يعد هذا عملاً أخلاقياً؟
شاهد هنا، مقطعاً فيلمياَ، ضمن برنامج (الجانب المظلم)، والذي يتناول قضية الأطفال اليمنيين المشردين في السعودية:
لا شك، بأن إنتاج الفلم الوثائقي عمل شاق، ومليئ بالتحديات، وبقدر أهمية الفيلم بحد ذاته إلا أن المسائل الأخلاقية المرتبطة به تأتي على رأس الأولويات. وبمجرد فتح حوار حول القضايا الأخلاقية في الأفلام الوثائقية ستجد المهتمين في هذا الحقل يروون لك عشرات المواقف والإشكاليات. وقبل الخوض في هذه القضية، أجد من المناسب أن أشير إلى موقع The Centre For Social Media ، فهو يعد موقعاً رائداً في المسائل الأخلاقية في الإعلام عموماً، وفي الوثائقيات على وجه الخصوص. وفيه ورش عمل وورقة بحث علمية تجاه التحديات الأخلاقية التي تواجه صانعي الأفلام الوثائقية.
هنا، سأحاول أن أجول بك على أطراف هذا الموضوع تأسيساً على ورقة تكليف بحثية أجريتها إبّان دراستي الماجستير كانت تحت عنوان Ethical Responsibilities to Participants and Viewers In Documentary films (المسؤوليات الأخلاقية تجاه الشخصيات ـ الضيوف ـ ومشاهدي الأفلام الوثائقية)، وقد لخصتها في عرض شرائح بوربوينت مدعمة بالمراجع ذات الصلة.
بداية، أود أن استرعي انتباهك بأن أسلوبي في كتابة هذه السلسلة يجنح نحو الكتابة الأدبية (الإعلامية) لا الأكاديمية التقليدية، فما ستقرأه بعد قليل هو مزيج من قراءاتي في كتب ومقالات علمية ومقابلات مع مخرجين وثائقيين جنباَ إلى جنب مع خبرتي (الناشئة) في هذا الحقل الحيوي. الذي دعاني لهذا هو، اقتناعي بأن الكتابة الأكاديمية الصرفة قد لا تروق لبعض المهنيين، أو قد يتململ منها القارئ غير المتخصص ويضيق بها ذرعاَ، ولحرصي بأن تعم الفائدة؛ تبنيتُ هذا الأسلوب لي طريقةَ ومنهاجاً، مع الحرص على ذكر المصادر والمراجع وإحالة الأفكار لأصحابها من باب الأمانة العلمية.
دعني الآن، أبدأ أقرّب لك القضية أكثر.
أتوقع أنك تتسائل ـ أولاًـ عن ماذا أعني ب( أخلاقيات Ethics) الإنتاج الوثائقي؟ حسناَ، الذي أقصده بهذه المفردة هو: كيف يمكنك أن تنتج فيلماً وثائقياً وتراعي في الوقت نفسه الاعتبارات الأخلاقية، والنفسية، والسلوكية، تجاه ضيفك، وجمهورك، بما يرفع من مصداقيتك في سجل أعمالك الوثائقي؟ والحديث عن الأخلاقيات ليس بجديد، لأنك ببساطة ستجد ـ مثلاً ـ في التخصصات الطبية يتحدثون عن أخلاقيات عمل الطبيب، وكيف يراعي نفسيات المرضى، ويُحكّم ضميرَه، وشرفَه المهني أثناء مزاولته الطب، وبالمثل، المنتج والمخرج للأفلام الوثائقية يحتاج أن يعرف أخلاقيات المهنة حينما يشرع في انتاج فيلم وثائقي.
وعلى ذلك، فأكثر الإشكاليات الأخلاقية في انتاج الأفلام الوثائقية تدور حول المسائل التالية:
– سلطوية المخرج على ضيفه عبر توقيعه إياه ورقة التعهد Form Release.
– استمالة المخرج للضيف بصورة جارحة للمشاعر Manipulation.
– جعل ضيفك بصورة المتهم ـ عمداً ـ أمام المشاهدين Victimised the Subjects.
– الفبركة Fabrication.
– عدم إشعار المشاهد بأن ما يشاهده هو (مشهد تمثيلي Reenactment) وهو ما يعرف ب Reconstruction Labelling.
– عدم تحري الدقة Accuracy.
– أفلام الطبيعة Wildlife Films وبعض الإشكاليات الأخلاقية.
– استغلال الضيف Exploitation.
كن على متابعة جديد الموقع، حيث قريبا إن شاء الله يتم رفع أجزاء أخلاقيات الإنتاج الوثائقي تباعاً.
مساء الخير أستاذ تركي،
استمتعت كثيرا بكتاباتك المؤصلة، وأفكارك الرائعة، وقرأت عدة مقالات، ولكني اضطررت إلى التعبير عن ذلك هنا بلروعة هذا المقال، وكونه عن موضوع لطالما استفزني كثيرا.
أحيانا تكون مثل هذه الإساءة للضيف بغرض الإحسان، وبنية طيبة، قد في صنع مقطع مؤثر ينبه الناس إلى أهمية موضوع الحلقة، أو يثير شفقة الناس ويدفعهم لمد يد العون إلى الضيف أ وغيره، مع أن الغاية لاتبرر الوسيلة أبداً.
لكن الأشد -في وجهة نظري – حينما يستخدم للدعاية للبرنامج أو المذيع، بشكل براجماتي فج، ضاربين بمصالح الضيف والمشارك ومشاعره عرض الحائط، وأتذكر هنا موقفا لمذيع برنامج سعودي على قناة الام بي سي، حينما خرج يصرخ ويتألم لمعاناة إمرأة معه في الأستوديو، وبعد نهاية الحلقة بفتره، طردها حينما عادت لمقابلته!!
بورك لك في قلمك وعلمك ..
السلام عليكم
بارك الله فيك أستاذ لقد غستمتع كثيرا بالمقالات التي تنشرها و التي هي في الحقيقة دروس لإنتاج الأفلام، و لما قرأت لك الموزضع الحالي المتعلق بأخلاقيات المهنة فقد أثرت موضوعا رائعا غفل عنه الكثير من الناس على كل حال في الميدان ضاربين عرض الحائط مشاعر ضيف البرنامج …..إلى غير ذلك مما ذكرت، فأخلاقيات المهنة موضوع لا بدا من الخوض فيه و مراعاته بارك الله فيك و بارك لك و جعل هذا العمل في ميزان حسناتك و حسنات أبائك و من علموك و دمتم في رعاية الله و حفظه.